وهكذا كانت الأعياد فرصة لسماع الخير والذكر ، ومظهراً من مظاهر الحياة العلمية في ذلك العهد ، ومجالاً مفتوحاً لتبصير المرأة المسلمة بأمور دينها ، فكانت حاضرة فاعلة في مثل هذه المجالس ، بل حتى الحائض لم يمنعها عذرها من الحضور ، ولا يعارض ذلك استفادتها وشهودها الخير ودعوة المسلمين .
قال ابن حجر " وفيه أن الحائض لا تهجر ذكر الله ولا مواطن الخير كمجالس العلم والذكر سوى المساجد"(1) ، فحرص النبي على حضور حتى الحيض ، لتتفقه وتتعلم أحكام دينها ، وترجم لذلك البخاري بقوله " باب شهود الحائض العيدين ودعوة المسلمين ".
ومما يدل على أهمية ذلك الحضور ، وأثره على تكوين الملكة العلمية لدى المرأة ، ما جاء في حديث أم هشام بنت حارثة عن النبي أنه كان يخطب بالقرآن، فقالت : " وما أخذت ( ق والقرآن المجيد ) إلا عن لسان رسول الله يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر ، إذا خطب الناس " رواه مسلم(2) 0
فمن خلال تردد هذه الصحابية الجليلة على بيوت الله ، استطاعت تعلم هذه السورة وفهمها .
وهذا الحديث يبين عناية النبي وحرصه على حضور النساء مجامع الخير ومجالس العلم ، فالصلاة تشمل الخطبة ، وهي باب من أبواب العلم ، ومفتاح من مفاتيح التربية والتوجيه ، حيث يكون الخطاب عاماً يحضره جميع شرائح المجتمع ، بل لم يكن هناك عذر لمن لا تجد جلباباً إما لفقرها أو لعدم حاجتها للخروج كالمخدرات في ذلك الوقت ، فأمر أن تلبسها أختها من جلبابها من باب التعاون على الخير .
وقد تميزت أم عطية برواية هذا الحديث وتفردت به وأفتت بموجبه ، قال ابن حجر:" وقد أفتت به أم عطية بعد النبي بمدة كما في هذا الحديث ، ولم يثبت عن أحد من الصحابة مخالفتها في ذلك "(3)
• حرص النبي على تعليم نسائه ووعظهن حتى في الليل :
عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: استيقظ النبي ذات ليلة فقال: سبحان الله ماذا أنزل الليلة من الفتن، وماذا فتح من الخزائن 0 أيقظوا صواحبات الحجر، فرب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة " رواه البخاري(1) ، وترجم له ( باب العلم والعظة بالليل ) 0
قال ابن حجر(2) : " أي تعليم العلم بالليل ، والعظة تقدم أنها الوعظ ، وأراد المصنف التنبيه على أن النهي عن الحديث بعد العشاء مخصوص بما لا يكون في الخير " 0 " وقوله ( صواحب الحجر ) إنما خصهن بالإيقاظ لأنهن الحاضرات حينئذ ، أو من باب " ابدأ بنفسك ثم بمن تعول " .
وقال :" وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مُوجِب إِيقَاظ أَزْوَاجه ، أَيْ : يَنْبَغِي لَهُنَّ أَنْ لَا يَتَغَافَلْنَ عَنْ الْعِبَادَة وَيَعْتَمِدْنَ عَلَى كَوْنهنَّ أَزْوَاج النَّبِيّ "(3) .
ومن فوائد الحديث " إيقاظ الرجل أهله بالليل لا سيما عند آية تحدث، وتحذير العالم من يأخذ عنه من كل شيء يتوقع حصوله، والإرشاد إلى ما يدافع ذلك المحذور "(4) 0
النبي هو المعلم القدوة ، حرص على تعليم أهله ، كما حرص على تعليم نساء المسلمين ، فهن أولى من يحظى بذلك ، وأسعد من يشرف بعنايته واهتمامه . وبفضل هذه الرعاية الأهلية النبوية ، تخرجن أمهات المؤمنين ، عالمات فقيهات ، فكان لهن السبق في تبليغ الدين ، ونشر السنة النبوية بين الناس ، فكانت حجراتهن مقصداً لطلاب العلم ، يأتيهن السائل والمستفت وصاحب الحاجة ، فيجد بغيته وتقضى حاجته ، ومن فضل الله على هذه الأمة تعدد أزواج النبي ، فتنوع العلم وتعددت المسائل العلمية التي نقلت عنهن .
المبحث الثاني :
حرص المرأة في زمن النبوة على طلب العلم
شهد العهد النبوي حركة علمية زاهرة ، وتفاعلاً حياً من جميع المؤمنين ، رجالاً ونساءً ، كباراً وصغاراً ، فأقبلوا على المجالس العلمية زرافات ووحداناً ، وتحملوا مشقة السفر وعناء المسير ، نظير مسألة علمية ، أو فتوى دينية ، وكان للمرأة المسلمة في هذا الحراك العلمي نصيب وافر ، وحضور متميز ، فكانت تسأل وتراجع وتستفسر وتجادل وتستكثر من العلم ، وتسعى للفهم والتطبيق ، فنالت بذلك العلم الوافر والفهم الثاقب ، وكان لاهتمام النبي بتعليم المرأة ، أثر كبير في توجيه مسيرتها العلمية ، وزادها حرصاً وتحركاً مميزاً في طلب العلم ونشره ، وفيما يلي استعرض أهم المواقف التي تدل على حرص المرأة في العهد النبوي على طلب العلم وحضور مجالس الخير ، للاستزادة والاستنارة بهدي النبي :
• المرأة تطالب بحقها في طلب العلم :
جاء في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : جاءت امرأة إلى رسول الله فقالت : يا رسول الله ! ذهب الرجال بحديثك ، فاجعل لنا من نفسك يوماً نأتيك فيه تعلمنا مما علمك الله ، فقال : اجتمعن فأتاهن فعلمهن مما علمه الله" وفي رواية :غلبنا عليك الرجال".(1)
هكذا كان رسول الله حريصاً على إسماعهن الخير ، فكان يخصهن بالتعليم ، وكذلك كانت المرأة تطالب بحقها الشرعي في طلب العلم أسوة بالرجال .
فعندما علمت المرأة أن طلب العلم فريضة على كل مسلم ، بادرت وطالبت بهذا الحق ، ولم تتعذر بضعفها ، واستئثار الرجال بمجالس النبوة ، بل خرجت من بيتها لتطلب هذا الحق لها ولبنات جنسها ، وشتان بين من تطلب حقاً مزعوماً – كقيادة وسيارة ورئاسة وزارة – وبين من تطالب بحق شرعي ، يترتب عليه صلاح دينها وقبول عملها .
• حرص المرأة على تحصيل العلم والمبادرة بطلبه :
عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : سمعت النبي ينهى عنها – أي ركعتين بعد العصر – ثم رأيته يصليهما حين صلى العصر ، ثم دخل عليِّ وعندي نسوة من بني حرام من الأنصار فأرسلت إليه الجارية فقلت : قومي بجنبه قولي له : تقول لك أم سلمة : يا رسول الله سمعتك تنهى عن هاتين وأراك تصليهما ، فإن أشار بيده ، فاستأخري عنه ، فلما انصرف قال : يا ابنة أبي أمية ، سألت عن الركعتين بعد العصر ، وإنه أتاني ناس من بني عبد القيس فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر فهما هاتان " رواه البخاري(1) 0
قال ابن حجر(2): " وفيه دلالة على فطنة أم سلمة رضي الله عنها ، وحسن تأتيها بملاطفة سؤالها واهتمامها بأمر الدين ، وكأنها لم تباشر السؤال لحال النسوة اللاتي كن عندها ، فيؤخذ منه إكرام الضيف واحترامه ، وفيه : ترك تفويت طلب العلم وإن طرأ ما يشغل عنه وجواز الاستنابة في ذلك ، وفيه المبادرة إلى معرفة الحكم المشكل فراراً من الوسوسة ".
والحديث السابق يبين لنا : حرص المرأة المسلمة على الفهم لأمور دينها ، وسؤالها عما أشكل عليها فهمه ، والسؤال نصف العلم ، ودقة انتباه أم سلمة لأفعال النبي المشرع ، وربطها بما سبق من أقواله ، وبما تعلمته من سيرته العلمية ، وإن هذا الحرص ودقة الملاحظة والسؤال عما أشكل فهمه ، من صفات طالب العلم المحمودة ، ومن أفضل أساليب الفهم والتطبيق .
• الحرص على تعلم العلم :
روى الإمام مسلم(3) عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : كنت أسمع الناس يذكرون الحوض ولم أسمع ذلك من رسول الله ، فلما كان يوماً من ذلك ، والجارية تمشطني ، فسمعت رسول الله يقول : أيها الناس ! فقلت للجارية: استأ خري عني ، قالت : إنما دعا الرجال ولم يدع النساء ، فقلت : إني من الناس ، فقال رسول الله : " إني لكم فرط على الحوض ، فإياي لا يأتين أحدكم فيذب عني كما يذب البعير الضال ، فأقول فيم هذا ؟ فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول : سحقا " .
هذا الحديث دليل على أن المرأة مخاطبة ومكلفة كالرجل تماماً ، فهي معنية بتلقي الخطاب وفهمه، وبمعرفة التكليف وتطبيقه. قال النووي: " قولها
إني من الناس) دليل لدخول النساء في خطاب الناس ، وهذا متفق عليه وإنما اختلفوا في دخولهن في خطاب الذكور ، ومذهبنا أنهن لا يدخلن فيه وفيه إثبات القول بالعموم "(1) . وفيه الحرص على تلقي التوجيه النبوي ومتابعة ما يستجد في أمور الدين ، وعلى تعلم العلم وطلبه من مصادره الأصلية . وتميز أم سلمة رضي الله عنها بالفطنة وقوة الملاحظة .
• الحرص على تعليم العلم بكل الوسائل :
أخرج البخاري(2) عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال : دخلت أنا وأخو عائشة على عائشة فسألها أخوها عن غسل النبي فدعت بإناء نحواً من صاع وأفاضت على رأسها وبيننا وبينها حجاب".
هذا الحديث أصل في حب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لنشر العلم وتعليم الناس بكل الوسائل المتاحة والمشروعة، حتى لا يبقى عليها من واجب أمانة التبليغ شيء(3)
قال القاضي عياض " ظاهره أنهما رأيا عملها في رأسها وأعالي جسدها مما يحل نظره للمحرم لأنها خالة أبي سلمة من الرضا ع أرضعته أختها أم كلثوم ، وإنما سترت أسافل بدنها مما لا يحل للمحرم النظر إليه ، قال : وإلا لم يكن لاغتسالها بحضرتهما معنى "(4).
وقال ابن حجر : " وفي فعل عائشة رضي الله عنها دلالة على استحباب التعليم بالفعل لأنه أوقع في النفس ، ولما كان السؤال محتملاً للكيفية والكمية ثبت لهما ما يدل على الأمرين معاً : أما الكيفية فبالاقتصار على إفاضة الماء ، وأما الكمية فبالاكتفاء بالصاع "(1)0
• سؤال المرأة عن أمور دينها :
وأسئلة النساء في ذلك كثيرة ، وقد يطول المقام بذكرها ، وسأختار بعضها(2) :
1- روى البخاري(3) في باب الحياء في العلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : نِعمَ النساء نساء الأنصار ، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين . وعن أم سلمة قالت :جاءت أم سُليم إلى رسول الله فقالت : يا رسول الله ، إن الله لا يستحي من الحق ، فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت ؟ قال النبي : إذا رأت الماء. فغطت أم سلمة – تعني وجهها- وقالت : يا رسول الله وتحتلم المرأة ؟ قال : نعم ، تربت يمينك ، فبم يُشبهها ولدها ؟ .
هذا النص يؤكد خروج المرأة لطلب العلم والتفقه في دينها ، لشعورها بمسئوليتها الفردية في هذا الجانب ، لتستفيد وتفيد بنات جنسها من ورائها ، وهي بذلك أفادت نساء الأمة علماً وعملاً .
قال ابن حجر : " فيه استفتاء المرأة بنفسها، وسياق صور الأحوال في الوقائع الشرعية لما يستفاد من ذلك "(4) . وفي الحديث ثناء أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها- على هذا الحياء الممدوح في العلم والتعلم ، وهو مما جبلت عليه المرأة ، ولكنه لا يمنع المرأة المسلمة من السؤال عما يهمها من أمور دينها ، وما يستشكل عليها ، ولو كان مما يستحي ذكره .
ويستفاد من الحديث أيضاً : الأدب عند الخطاب والسؤال ، فهذه أم سليم قدمت لسؤالها بمقدمة ترفع ما يخشى أنه حرج فيه ، والنبي أقرها على ذلك .(5)
2- عن عائشة رضي الله عنها قالت :جاءت فاطمة ابنة أبي حبيش إلى النبي فقالت : يا رسول الله ،إني امرأة اُستحاض فلا أطهُرُ ، أفأدَعُ الصلاة ؟ فقال رسول الله : لا إنما ذلك عِرق وليس بحيض، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة ، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي " رواه البخاري(1)
هكذا تخرج المرأة من بيتها لتسأل عن طهارتها وصلاتها بدون خجل أو حياء مخل ، لأن الأمر دين ، ويترتب عليه صحة الصلاة . فبادرت لتسأل عما أشكل عليها وعما يستحى منه غالباً .
قال ابن حجر(2):" فيه جواز استفتاء المرأة بنفسها ومشافهتها للرجل فيما يتعلق بأحوال النساء،وجواز سماع صوتها للحاجة،وجواز سؤال المرأة عما يستحي من ذكره ،والإفصاح بذكر ما يستقذر للضرورة"
3- عن عائشة رضي الله عنها: أن امرأة سألت النبي عن غسلها من المحيض فأمرها كيف تغتسل قال : خذي فِرصة من مسك فتطهري بها قالت :كيف أتطهر ؟ قال تطهري بها قالت: كيف ؟ قال :سبحان الله تطهري فاجتبذتها إلى فقلت :تتبعي بها أثر الدم. رواه البخاري(3) .
فِرصة بكسر الفاء: قطعه من صوف أو قطن أو خرقة (4).
يستفاد من الحديث حرص المرأة على أمور طهارتها وما يخص عبادتها ودينها ، حتى في الأمور الخاصة التي يستحي من ذكرها . قال ابن حجر :" فيه سؤال المرأة العالم عن أحوالها التي يحتشم منها ،ولهذا كانت عائشة تقول في نساء الأنصار : " لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين "(4) .
ويستنبط من الحديث : الفائدة التربوية في التعليم ، وهي محاولة إفهام المتعلم ، وتكرار المعلومة عليه ولو بأساليب مختلفة ، قال ابن حجر :" وتكرير الجواب لإفهام السائل، وإنما كرره مع كونها لم تفهمه أولاً ، لأن الجواب به يؤخذ من إعراضه بوجهه عند قوله: (توضئي) أي في المحل الذي يستحيا من مواجهة المرأة بالتصريح به، فاكتفى بلسان الحال عن لسان المقال، وفهمت عائشة رضي الله عنها ذلك عنه، فتولت تعليمها، وبوب البخاري عليه في الاعتصام: الأحكام التي تعرف بالدلائل)(5).
4- ع